لا يجوز للزوج السفر من دون موافقة زوجته ترك الأسرة للضياع والتشرد خيانة للأمانة التي كلفه الله بها
الرسول قدوتنا في احترامه لمشاعر زوجاته وحنانه على أولاده
فتوى جريئة للقرضاوي
المصدر: مجلة لها العدد 131 سنة 2003
في الوقت الذي تحاصر فيه المرأة مجموعة كبيرة من الفتاوى والقوانين ومنها عدم جواز سفرها من دون إذن زوجها انطلقت فتوى جريئة للمفكر الإسلامي الدكتور يوسف القرضاوي بأنه لا يجوز للزوج السفر إلا بموافقة زوجته، خصوصاً إذا ترتب على سفره ضرر لها أو لأولادها، وإذا سافر من دون موافقتها فهو آثم . فما تفاصيل تلك الفتوى وأسانيدها وماذا يقول عنها علماء الإسلام ؟
القاهرة – أحمد جمال
في البداية أوضح الدكتور يوسف القرضاوي الأدلة الشرعية على فتواه الجريئة قائلاً : "الحياة الزوجية شركة مقدسة قائمة على، ميثاق غليظ" كما وصفه القرآن، ولكل من الزوجين حقوق لدى الآخر وكذلك عليه واجبات عليه القيام بها وإلا أصبح
مقصراً شرعاً. وهذا ما حدده القرآن الكريم في قوله تعالى " ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف" ثم أعقب ذلك بقوله تعالى "وللرجال عليهن درجة" وهي درجة القوامة والمسؤولية عن قيادة الأسرة إلى بر الأمان . لهذا
فإن القوامة هنا تكليف لا تشريف، وينتج عنها مسؤوليات جسيمة تجاه أسرته وسيسأله الله عن ذلك وهذا ما يقرره الحديث النبوي الجامع الذي يقول فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم "كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته، فالأمير الذي على الناس راع عليهم وهو مسؤول عنهم، والرجل راع على أهل بيته وهو مسؤول عنهم، والمرأة راعية على بيت بعلها وولده وهي مسؤولة عنهم ألا فكلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته". لهذا فإنه لا يجوز للزوج ترك أسرته للضياع والتشرد والسفر من دون التفاهم مع أفردها الذين سيحاسبه الله عليهم، وبالتالي عليه تنفيذ الوصية النبوية الخالدة "خيركم خيركم لأهله ,أنا خيركم لأهلي" .
ويعلن المفكر الإسلامي الدكتور محمد عمارة موافقته على اجتهاد الدكتور القرضاوي قائلاً : "لقد جعل الإسلام الزواج آية من آيات الله وله حكمة وأهداف سامية للزوجين حيث يقول تعالى "ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون" فإذا سافر الزوج من دون علم الزوجة أو موافقتها القائمة على المناقشة العقلية وليس
العناد فإنه سيضيعهم وقد تنحرف الزوجة
ويتشرد الأولاد . ويكون الزوج في هذه الحالة آثماً لأنه ضيع ما أستأمنه الله عليهم . فالحياة الزوجية الإسلامية مسؤوليات مشتركة بين الزوجين وعلى كل واحد منهما القيام بواجبه تجاه أسرته وإلا عاقبه الله على ذلك . وإذا نظرنا إلى التوجيه الإلهي العام الذي يحكم حياة المؤمنين والمؤمنات نجده في قوله
تعالى "والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله أولئك سيرحمهم الله إن الله عزيز حكيم" فإذا كان هذا سلوك المؤمنين والمؤمنات عامة فما بالنا إذا كان المؤمن والمؤمنة زوجين عليهما طاعة الله ورسوله قبل كل شئ .
ويطالب المفكر الإسلامي الدكتور عبد الصبور شاهين كل زوج أن يخشى الله في كل قرار يتعلق بأسرته وأن يشاور أسرته في أي قرار يتخذه وليس في هذا
انتقاص لرجولته بل إنه قمة الرجولة والطاعة لله عز وجل لأنه سبحانه الذي وصف العلاقة بين الجنسين بقوله "بعضكم من بعض" وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم "إنما النساء
شقائق الرجال" وعلى الرجل الذي تغلب عليه نعرة الكبر
والغرور على أسرته أن يقرأ سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم ويتأمل كيفية معاملته لأزواجه حيث إنه كان في خدمة أهله وكانت وصيته للرجال أن يتقوا الله في النساء من آخر وصاياه قبل وفاته وهو الذي وصفه الله سبحانه وتعالى بقوله "وإنك لعلى خلق عظيم" وأمرنا أن، نقتدي به بقوله تعالى "لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الأخر" .
ويوضح الداعية الإسلامي الدكتور عبد العظيم المطعني، الأستاذ في جامعة الأزهر، أن الله أمرنا بالشورى في كل أمور حياتنا
اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم والذي قال الله له "وشاورهم في الأمر" ووصف العلاقة بين المؤمنين بقوله تعالى "وأمرهم شورى بينهم" وجعل المشورة بين الزوجين واجبة حتى في كل أمور الحياة حتى فطام الأطفال فقال تعالى "فإن أرادا فصالا عن تراض منهما وتشاور فلا جناح عليهما" وقد ثبت في السيرة النبوية إن الرسول صلى الله عليه وسلم شاور زوجته أم سلمة في غزوة الحديبية وأخذ برأيها لأنه رأى فيه الخير والصواب . وقد بلغ مراعاة بعض الصحابة لمشاعر زوجاتهم أن قال عمر بن الخطاب "فإنهن يحببن لأنفسهن ما تحبون لأنفسكم" وقوله "كنا في الجاهلية لا نعد النساء شيئاً فلما جاء الإسلام وذكرهن الله رأينا لهن بذلك علينا حقا" وقول عبد الله بن عباس "أني لأحب أن أتزين لآمراتي كما أحب أن تتزين لي" وقد قرر الرسول صلى الله عليه وسلم حكماً قاطعاً بقوله "إن الله سائل كل راع عما استرعاه حفظ أم ضيع" فهل سفر الزوج من دون موافقة زوجته وأولاده حفظ لهم أم ضياع ؟
وتؤكد الدكتورة سعاد صالح رئيس قسم الفقه في جامعة الأزهر والملقبة بمفتية النساء، إن الله وضع مبدأ عاماً للحياة الزوجية وعلى الرجال الالتزام به باعتبارهم المسؤولين عن توفير الأمن والاستقرار للأسرة إذ يقول تعالى "وعاشروهن بالمعروف" ويدخل في باب المعاشرة بالمعروف تلبية رغبات الزوجة والأولاد وحاجاتهم، إذا كانت حاجات شرعية، ولاشك أن المحافظة على الكيان الأسري يتحقق بوجود الزوجين معاً أو بالتفاهم بينهما في اتخاذ أي خلوة يقوم بها أحدهما . وحتى إذا كانت هناك مصلحة ستعود على الرجل وأسرته من السفر فإن هنا مبدأ يجب أن يكون هو الفيصل في النزاع، وهو يتحمل الضرر الخاص لدفع الضرر العام، ولاشك أن الضرر العام هو الذي يشمل العلاقة الزوجية وهجران الزوجة ما يؤدي لفتنتها أو انحرافها وضياعها وتشرد أولادها إذا كانت غير قادرة على قيادة سفينة الحياة الزوجية بمفردها ومن هنا جاء التوجيه الإلهي العام "يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم ناراً" فالوقاية من النار له ولأسرته تكون بالمحافظة عليها وتعليمها أمور دينها والسهر على راحتها،
لا "ترك الجمل بما حمل" .
وعن
الرؤية الاجتماعية للفتوى الجريئة تقول الدكتورة هنا أبو شهبه أستاذ الاجتماع في جامعة الأزهر المتأمل للكثير من مشكلات المجتمع يجد السبب الرئيسي فيها غياب التفاهم بين الزوجين لجهلهما بتعاليم الدين توضح حقوق وواجبات كل منهما، وأن على كل من الزوجين تقديم ما عليه من واجبات قبل البحث عن حقوقه . ولا شك أن غياب الزوج عن أسرته يعرض الأولاد والزوجة نفسها للانحراف نتيجة غياب الحماية التي يكلفها الرجل خصوصاً أننا نعيش في مجتمعات
ذكورية بطبعها بمعنى أن المرأة التي ليس لها رجل يحميها ويدافع عنها نجدها بين نارين حيث تكون فريسة
للذئاب البشرية التي يحاول كل واحد منهم إغراءها بكل السبل، وأما أن تكون في حاجة إلى المال والإشباع العاطفي ما يجعلها ضعيفة أمام أي أغراء من أي ذئب .
وإذا ضعفت المرأة ضاعت الأسرة لأنها وحدها غير قادرة على قيادة سفينة الحياة بعدما تخلى الزوج عن دوره المنوط به . وما أسهل الاتهامات الظالمة التي يوجهها إليها أفراد المجتمع، فإذا تكلمت مع الرجل فهي على علاقة آثمة معه، وإذا ذهبت للعمل فهي ذاهبة لمقابلة الرجال لأغراض دنيئة .
والاتهامات الاجتماعية لا ترحم، فهل يرضى زوج غيور على أسرته أن تتعرض زوجته لهذه الأخطار من أجل جمع مال تكون ضريبته التضحية بالأسرة كلها بين الانحراف الأخلاقي أو التشرد والضياع الإجرامي؟ لهذا فالأفضل أن يقوم الزوج بالتشاور مع أسرته، وإذا رفضت فليبق معهم ويوفر لهم الحماية حتى وإن كان
الدخل بسيطاً، وأن يقدم المصلحة العامة على المصلحة الذاتية .
وعن التحليل النفسي للقضية يؤكد الدكتور محمود الفار أستاذ الطب النفسي بالجامعات المصرية، إن الدراسات النفسية والاجتماعية أوضحت أن نسبة كبيرة من الأسر التي يسافر فيها الزوج من دون موافقة أسرته تتعرض لهزات نفسية عنيفة نتيجة فقدان التوجيه الرشيد وعدم إحساسهم بالدفء العاطفي والأمان النفسي والاجتماعي، لهذا تجدهم يعانون افتقاد التوازن النفسي الذي يؤدي إلى الإحساس بالضياع وغياب الرعاية ما يجعل أفراد الأسرة صيداً سهلاً لرفقاء السوء الذين يأخذون بأيديهم إلى الانحراف الأخلاقي
والإدمان و
الرسوب في الدراسة . فالأب الذي يتخلى عن مسؤولياته الأسرية وتسيطر عليه أنانيته ومصلحته الذاتية إنما يلقى بأسرته كلها إلى التهلكة والضياع، ويجعلهم في وضع أكثر قسوة من
الأيتام .
وليس بالمال وحده يحيا الإنسان وإنما الاستقرار النفسي والاجتماعي هو أساس النجاح في الحياة والسعادة الحقيقية لها لأن المال يكون نقمة إذا أسئ توظيفه في ظل غياب الأب عن أسرته فما أكثر جرائم الآداب والإدمان التي يكون سببها الأب الغائب .