القرضاوي: المحاكمات العسكرية وتزوير الانتخابات حرام حرام
ناشد فضيلة الشيخ يوسف القرضاوي كافة علماء المسلمين في سائر الأقطار "عدم التهاون في تحريم بعض الأمور الجوهرية الخطيرة، وطالبهم بإعطاء كلمة (الحرام) حقها؛ فكبت الحريات، والتعدي على حرمات الناس، واعتقالهم، ومحاكمة المدنيين محاكمات عسكرية، وتزوير الانتخابات، ونهب الأموال العامة... كلها محرمات ينبغي أن يعلن عنها العلماء، كما يبالغون في الإعلان عن المحرمات الأخرى المعروفة".
جاء ذلك في سياق حلقة برنامج الشريعة والحياة –الأحد – 5 مارس 2007- التي تناولت الحديث عن المبادئ الكلية للحلال في الإسلام، وكيف يحاول بعض العلماء تضييق دائرة الحلال والتوسيع في دائرة المحرمات، كذا التركيز على شرح بعض القواعد المهمة في هذا السياق.
الأصل الإباحة
أفرد الشيخ الجزء الأول من الحلقة للحديث عن قاعدة: "الأصل في الأشياء الإباحة" مُنبهًا على أنها من أهم القواعد التي ترتكز عليها فكرة الحلال والحرام في الإسلام.
وأوضح الشيخ أنه عندما كتب في أواخر خمسينيات القرن الماضي كتابه عن الحلال والحرام أراد بهذا العمل أن يُمهد لتأسيس قواعد كلية لتلك القضية؛ فكانت تلك القاعدة من أول هذه المبادئ، وعلل الشيخ ذلك بأن الأصل عدم السؤال عن المباحات، فكل الأشياء حلال إلا ما خُصِّص بالحرمة لأن الله خلق هذا الكون وما فيه لمنفعة الإنسان، قال تعالى: "هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ" (29 – البقرة)، وأيضا "أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَن تَقَعَ عَلَى الأَرْضِ إِلاَّ بِإِذْنِهِ إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ" (65 – الحج)؛ فكيف يخلقه لنا ثم يحرمه علينا!.
ثم أوضح أن تلك القاعدة لا تسقط على الأشياء والأعيان فقط.. بل أيضا على التصرفات والأفعال المتعلقة بالعادات والمعاملات؛ فكل هذه الأمور الأصل في أحكامها الإباحة، ولا يجوز التحريم إلا بنص صحيح الثبوت صريح الدلالة؛ ولهذا ضاقت دائرة المحرمات ضِيقًا شديدا واتسعت دائرة المباحات.
وأرجع القرضاوي ذلك الاتساع إلى عدد من العوامل، من أهمها أن الإسلام ترك دائرة واسعة لم يشرع فيها، ولم يُلزم الناس فيها بأمر ولا نهي؛ منطقة فراغ من الإلزام التشريعي.. سُميت بمنطقة العفو، تركها الله عز وجل رحمة منه غير نسيان كما جاء في الحديث الشريف، قال صلى الله عليه وسلم: "إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها، وحد حدودًا فلا تعتدوها، وحرم أشياء فلا تنتهكوها، وسكت عن أشياء رحمةً بكم غير نسيان فلا تبحثوا عنها".
واستطرد الشيخ: " ففي الوقت الذي وضعت فيه نصوص تشرع أمور العبادات وشئون الأسرة وأحكامها وتضع قواعد المواريث.. في نفس الوقت تُرِكت أمور حياتية أخرى بلا تشريعات تخفيفا وتيسيرا على الناس، قال تعالى: "الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ" (157 – الأعراف)، وهذا هو عنوان الرسالة المحمدية.
واقع الفتوى
وفي إشارة لواقع الفتوى وحال الفقهاء معها في هذا الزمان واتجاه الكثيرين منهم لمنهج التشديد.. تحدث فضيلة الشيخ بداية عن منهج فقه القرون الأولى، وفقه الأئمة الأربعة "الذين كانوا أميل إلى التضييق في دائرة التحريم، والتورُّع عن القول بالحرمة والتي تعني النهي الإلهي الحاسم والعقاب بالتعذيب لفاعله في نار جهنم، وهو أمر جد خطير؛ لذا كانوا لا يجرءون على القول بالحرمة إلا بما ثبت تحريمه قطعا، وما عدا ذلك كان الفقيه يستخدم ألفاظا من قبيل: أكره، أو لا أحبه، أو لا أراه؛ فالأولون كانوا أكثر تيسيرا وتخفيفا على الناس".
وألمح الشيخ إلى أن "الأمور اختلفت كثيرا لدى المتأخرين من العلماء ممن اجترءوا على التحريم، وأصبح كل عصر يزيد بالتشديد من باب الاحتياط، وعلى مر العصور أصبح الدين مجموعة من "الأحوَطِيات"، باستدلالٍ بحديث ضعيف أحيانا، وبفهم مخالف لأفهام الآخرين أحيانا، وبهدف سد الذريعة أحيانا أخرى، حتى إن البعض لم يكتفِ بالتحريم فقط بل تجاوز ذلك لإدخال بعض ما اختُلف فيه إلى دائرة الكبائر".
ومع إبداء الشيخ تفهمه لاختلاف طبائع الناس وبالضرورة اختلاف طبائع الفقهاء من بين مُيسِّر ومُشدِّد إلا أنه تحفظ على أساليب بعض الفقهاء ممن يلتزمون التشديد بصفة دائمة، ووصَفها "بالمهلكة"، مستشهدا بحديث النبي صلى الله عليه وسلم "إياكم والغلو في الدين..." داعيا إياهم إلى "المنهج الوسطي الذي يقوم على التيسير لا على التعسير، على التبشير لا على التنفير"، كما طالب العلماء ذوي الثِقل والمكانة الفقهية "بعدم كتمان آرائهم الوسطية خشية بيئاتهم ومجتمعاتهم المتشددة، "الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاَتِ اللهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلاَ يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلاَّ اللهَ وَكَفَى بِاللهِ حَسِيبًا" (39 – الأحزاب)؛ فكتمان الرأي نوع من خيانة الأمانة".
في الوقت ذاته أكد الشيخ على أنه "لا يجد حرجا في قيام بعض الفقهاء كثيرا بإلحاق ما ليس فيه نص بما فيه نص إذا استوفى شروطه وهو المسمى بالقياس"، وعرفه الشيخ بأنه "أن تحكم على الشيء بحكم نظيره على أن تكون هناك علة مشتركة بين الفرع المقيس والأصل المقيس عليه، وألا يكون هناك فارق معتبر بينهما، وألا يكون ذلك في العبادات المحضة بل في الأمور التي تقبل القياس".
لكنه عاد وحذر من أن "البعض لا يطبق ذلك ويقيس على أقوال الفقهاء، وأقوال الفقهاء ليس أصلا يقاس عليه، والأصل إما نص من كتاب الله أو من سنة النبي صلى الله عليه وسلم".
ضوابط الضرورة
في الجزء الثاني من الحلقة تناول الشيخ بالشرح قاعدة أخرى وهي قاعدة: "الضرورات تبيح المحظورات"، حيث أكد أنها "من أعظم القواعد التي جاءت بها الشريعة، وهي دليل على أنها شريعة واقعية لا تحلق في أجواء الخيال تاركة الناس يعانون دون أن تجد لهم حلا، فالإسلام راعى ظروف البشر التي تختلف حالة السعة والاختيار عن حالة الضيق والاضطرار"، قال تعالى: "إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ" (173 – البقرة).
وذكر الشيخ مجموعة من الشروط التي تتحقق عندها إباحة المحظورات منها:
- أن تتحقق الضرورة؛ لأن البعض يقول باضطراره وهو بخلاف ذلك، فالاضطرار الحقيقي معناه أن تجبر على فعل شيء إذا لم تفعله هلكت.
-ألا يكون هناك سبيل إلى سد الضرورة إلا بهذا الأمر.
- ألا يبالغ في التزود من هذا المحظور الذي أباحته الضرورة.
وفي ختام الحلقة طُرحت أسئلة متعددة تتعلق بالاقتراض الربوي للسُكنى، وبتهنئة أهل الكتاب بأعيادهم، وبالتبرع بالدم لغير المسلمين، وبتملك فئة بعينها لكلأ عام مباح، وقد قام الشيخ بالإجابة عليها جميعاويمكنكم الاستماع إلى الأسئلة والأجوبة كاملة.