بسم الله الرحمن الرحيم
القصاص و الميزان
....................................
جامع المصطفي : يوم 26/6/2008
الحمد لله أرسل رسله بالبينات وأنزل معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط . سبحانه سبحانه قال فينا وصدق " و َنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ ". أحمد الله واشكره وأتوب إليه وأستغفره وأرجوه النجاة وحسن الختام و آمله الوفاة علي الإسلام . وأشهد أن لا اله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله شرفه وفضله وزينه وجمله واصطفاه واجتباه ووفقه وهداه فكان خير الأنام . اللهم صل وسلم وبارك علي رسول الله محمد خير عبادك وعلي آله وصحبه وكل مسلم آمن بآيات ربه ففاز بقربه وتمتع بحبه وسار علي دربه ونهجه إلي يوم الدين . أما بعد فأوصيكم وإياي عباد الله بتقوى الله وأحذركم ونفسي من عصيان الله ثم أستفتح بالذي هو خير . يقول الله تبارك وتعالي وهو أصدق القائلين " َوالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ . وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَـئِكَ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُم بِمَا كَانُواْ بِآيَاتِنَا يِظْلِمُونَ " .
عباد الله أيها المسلمون :ـ
بعد الحساب يكون القصاص والميزان . فالقصاص هو أن يقتص للمظلوم من الظالم . وذلك عام في الإنسان والحيوان . أما الإنسان فقد روي الإمام البيهقي رحمه الله عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلي الله عليه وسلم " من ضرب بسوط ظلما اقتص منه يوم القيامة ". وأما الحيوان فقد روي الإمام مسلم رحمه الله عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلي الله عليه وسلم " لتؤدن الحقوق إلي أهلها يوم القيامة حتى يقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء ".
ولما كان رأس مال الإنسان يوم القيامة هو الحسنات لذلك إن كان عليه مظالم للعباد فإنهم يأخذون من حسناته بقدر هذه المظالم فإن فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه أخذ من سيئاتهم وطرحت علي سيئاته . ويصح في ذلك ما روي الإمام البخاري رحمه الله عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلي الله عليه وسلم " من كان له مظلمة لأخيه من عرض أو شيء فليتحلل منه اليوم قبل أن لا يكون دينار ولا درهم وإن كان له عمل أخذ منه بقدر مظلمته وإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه " . وهذا هو المفلس صح فيه ما روي الإمام مسلم رحمه الله عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلي الله عليه وسلم "أتدرون من المفلس ؟ قالوا المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع . قال المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة ويأتي وقد شتم هذا وقذف هذا وأكل مال هذا وسفك دم هذا وضرب هذا فيعطي هذا من حسناته وهذا من حسناته فإن فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه ثم طرح في النار ". وأعظم الحقوق يوم القيامة الدماء روي الإمام الترمذي عن بن عباس رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلي الله عليه وسلم " يجيء المقتول بالقاتل يوم القيامة ناصيته ورأسه بيده وأوداجه تشخب دما فيقول يا رب هذا قتلني فسله لم قتلني ؟ " . لذلك أول شيء يقضي فيه يوم القيامة الدماء فقد روي الشيخان الجليلان البخاري ومسلم رحمهما الله عن بن مسعود رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلي الله عليه وسلم " أول ما يقضي فيه يوم القيامة الدماء " ولا تعارض في ذلك مع ما ورد أن أول ما يحاسب عنه العبد يوم القيامة الصلاة . ويحمل هذا علي أن أول ما يقضي فيه من حقوق العباد الدماء وأول ما يحاسب عنه العبد من حقوق الله الصلاة و يصح في ذلك ما روي الإمام النسائي رحمه الله عن بن مسعود رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلي الله عليه وسلم " أول ما يحاسب عنه العبد يوم القيامة الصلاة وأول ما يقضي فيه بين العباد الدماء ". ويكون ذلك ( القصاص ) عند قنطرة بآخر الصراط . فقد روي الإمام البخاري رحمه الله عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلي الله عليه وسلم " إذا خلص المؤمنون من النار حبسوا بقنطرة بين الجنة والنار فيكون القصاص في الحسنات والسيئات حتى إذا نقوا وهذبوا أذن لهم بالدخول فو الذي نفس محمد بيده لأحدهم أعرف بمسكنه في الجنة من مسكنه في الدنيا " .
أما في الحيوان فقد ورد أن الحشر يكون للخلق كلهم حتى البهائم والطير . ويكون حساب البهائم والطير عن طريق القصاص ففي المسند عن أبي زر رضي الله عنه أن رسول الله صلي الله عليه وسلم رأي شاتين تتناطحان فقال أتدري يا أبا زر فيما يتناطحان ؟ فقال لا . قال لكن الله يعلم وسيقضي بينهم يوم القيامة ". فيكون حساب البهائم عن طريق القصاص وبعد القصاص يقول الله للبهائم كوني ترابا فيري ذلك الكافر فيقول يا ليتني كنت ترابا . ماذا بعد ذلك ؟ قال الإمام القرطبي : إذا انتهي الحساب يكون بعده وزن الأعمال . فالحساب لتقدير الأعمال والوزن لإظهار مقاديرها . يصح في ذلك ما روي الإمام الحاكم رحمه عن سلمان رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلي الله عليه وسلم " يوضع الميزان يوم القيامة فلو وزن فيه السموات والأرض لوسع " فما هو الميزان ؟ وهل ميزان واحد أم عدة موازين ؟ وما الذي يوزن ؟ وماذا يثقل الميزان ؟ ... الميزان :ـ ما تقدر به أعمال العباد في الآخرة . و أهل السنة والجماعة علي أن الميزان : ميزان حقيقي توزن به أعمال العباد وله لسان ينطق وكفتان ويميل بالأعمال . وقد ذهب المعتزلة أن الميزان هنا غير حقيقي وهو كناية عن العدل .. ورد علي ذلك شيخ الإسلام أن الميزان حقيقي واعتمد في ذلك علي قوله تعالي " ونضع الموازين القسط ليوم القيامة " . وما ورد في الصحيحين عن رسول الله صلي الله عليه وسلم " كلمتان خفيفتان علي اللسان ثقيلتان في الميزان حبيبتان إلي الرحمن سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم ". وهل هو ميزان واحد أم موازين ؟ خلاف بين العلماء قيل هو موازين لقوله تعالي ونضع الموازين القسط ولقوله فمن ثقلت موازينه . تأمل كلمة موازين ( جمع ميزان ) فقد قيل لكل شخص ميزان ولكل عمل ميزان . وقيل هو ميزان واحد والجمع باعتبار تعدد الأعمال والأشخاص . وقد اختلف فيما يوزن فقيل الذي يوزن هو الأعمال لقوله تعالي " وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ "ويصح في ذلك ما روي الإمام بن حبان رحمه الله عن أبي الدرداء رضي الله عنه عن النبي صلي الله عليه وسلم قال " ما يوضع في الميزان يوم القيامة أثقل من حسن الخلق ". وقيل أن الذي يوزن هو الشخص نفسه لقوله تعالي "ُ قلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً ". ويصح في ذلك ما روي الإمام البخاري رحمه الله عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلي الله عليه وسلم "إنه ليأتي بالرجل العظيم السمين يوم القيامة لا يزن عند الله جناح بعوضة " وروي الإمام أحمد رحمه الله عن زر بن حبيش رضي الله عنه أن بن مسعود رضي الله عنه كان نحيف الساقين فجعلت الريح تلقيه فضحك منه القوم فقال رسول الله صلي الله عليه وسلم مم تضحكون قالوا يا رسول الله من رقة ساقيه . قال والذي نفسي بيده لهما أثقل في الميزان من أحد ". وقيل إن الذي يوزن هو صحائف الأعمال ويصح في ذلك ما روي الإمام الترمذي رحمه الله عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال "إن الله سيخلص رجلا من أمتي علي رؤوس الخلائق يوم القيامة فينشر له تسعة وتسعين سجلا كل سجل مثل مد البصر ثم يقول أتنكر شيئا من هذا شيئا أظلمك كتبتي الحافظون فيقول لا يا رب فيقول ألك عذر فيقول لا يا رب فيقول الله تعالي بلي إن لك عندنا حسنة فإنه لا ظلم اليوم فتخرج بطاقة فيها أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله فيقول أحضر وزنك فيقول يا رب ما هذه البطاقة مع هذه السجلات ؟ فيقول فإنك لا تظلم فتوضع السجلات في كفة والبطاقة في كفة فطاشت السجلات وثقلت البطاقة ولا يثقل مع اسم الله شيء " . والحق أن الذي يوزن هو الإنسان وصحفه وأعماله لعموم الأدلة فالنصوص لا ينفي بعضها بعضا ويصح في ذلك ما روي الإمام احمد رحمه الله عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال " توضع الموازين يوم القيامة فيوضع الرجل في كفة ويوضع ما أحصي عليه فيمايل به الميزان قال فيبعث به إلي النار قال فإذا أدبر إذا صائح من عند الرحمن عز وجل يقول لا تعجلوا فإنه قد بقي له فيؤتي ببطاقة فيها لا اله إلا الله فتوضع مع الرجل في كفة حتى يميل به الميزان " . أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم
الثانية :ـ
الوزن يكون لمن يحاسب أما من لا يحاسب كالأنبياء والملائكة ومن يدخل الجنة بغير حساب فلا وزن لهم . وعلي ذلك توزن سيئات الكفار ليجازون عليها ولا يتعارض ذلك مع قوله تعالي " فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا يعني لا نقيم لهم وزنا نافعا . وما هي الأعمال إلي يثقل بها الميزان ؟ هناك أمور كثيرة نذكر منها : حسن الخلق : روي الإمام أبو داوود عن أبي الدرداء أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال " أثقل شيء في ميزان العبد يوم القيامة حسن الخلق "، والتسبيح والتحميد روي الشيخان الجليلان البخاري ومسلم رحمهما الله عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلي الله عليه وسلم " كلمتان خفيفتان علي اللسان حبيبتان إلي الرحمن سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم " ، الإنفاق في سبيل الله روي الإمام البخاري رحمه الله عن أبي هريرة رضي الله عنه قال رسول الله صلي الله عليه وسلم "من احتبس فرسا في سبيل الله إيمانا بالله وتصديقا بوعده كان شبعه وريه وروثه وبوله حسنات في ميزانه يوم القيامة " .