[b]أختلف الناس في هيئة الخرور إلى السجود أهي على اليدين أم هي على الركبتين ؟ والراجح الصحيح في هذا الباب أن النزول إنما هو على اليدين لصحة الأدلة في ذلك ووضوح معناها .
والحجة في هذا الباب هي حديث أبي هريرة رضي الله عنه تعالى عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : " إذا سجد أحدكم فلا يبرك كما يبرك البعير وليضع يديه قبل ركبتيه " أخرجه أحمد ( 2 / 381 ) وأبو داود ( 3 / 70 عون ) والبخاري في " التاريخ الكبير " ( 1 / 1 / 139 ) والنسائي ( 2 / 207 ) والطحاوي في " شرح معاني الآثار " ( 1 / 254 ) وفي " المشكل " ( 1 / 65 ـ 66 ) وكذا أخرجه الحازمي في " الاعتبار " ( ص 158 ـ 159 ) والدارقطني ( 1 / 344 ـ 345 ) والبيهقي ( 2 / 99 ـ 100 ) وابن حزم في " المحلى " ( 4 / 128 ـ 129 ) والبغوي في " شرح السنة " ( 3 / 134 ـ 135 ) من طريق الدراوردي ثنا محمد بن عبد الله بن الحسن عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة مرفوعا فذكره .
قلت : وإسناده صحيح لا غبار عليه وجود إسناده النووي في " المجموع " ( 3 / 421 ) ولكن شيخ الإسلام ابن القيم رضي الله عنه أعله في كتابه الفذ " زاد المعاد " بعدة علل ، هي عند التحقيق ليست كذلك، فأنا أوردها جملة ، ثم أكر عليها بالرد تفصيلاً والله المستعان وعليه التكلان.
قال شيخ الإسلام ـ ابن القيم ـ في " الزاد " ( 1 / 57 ـ 58 ) وفي " تهذيب سنن أبي داود " ( 3 / 73 ـ 75 ) ما ملخصه :
أولاً : حديث وائل بن حجر رضي الله عنه أثبت من حديث أبي هريرة كما قال ذلك الخطابي . وقد قال فيه الترمذي : " حسن غريب " وقال في حديث أبي هريرة : " غريب " ولم يذكر فيه حسناً .
ثانياً : حديث أبي هريرة لعل متنه انقلب على بعض الرواة ولعل صوابه : " وليضع ركبتيه قبل يديه " فإن أوله يخالف آخره . قال : وقد رواه كذلك أبو بكر ابن أبي شيبة فقال : حدثنا محمد بن فضيل عن عبد الله بن سعيد عن جده عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال : " إذا سجد أحدكم فليبدأ بركبتيه قبل يديه ولا يبرك كبروك الفحل " . رواه الأثرم في " سننه " عن أبي بكر كذلك . وقد روى عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يصدق ذلك ويوافق حديث وائل بن حجر . قال أبي داود : حدثنا يوسف بن عدى حدثنا ابن فضيل عن عبد الله بن سعيد عن جده عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه كان إذا سجد بدأ بركبتيه قبل يديه " .
ثالثاً : إن كان حديث أبي هريرة محفوظاً فهو منسوخ بحديث مصعب بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه ، والذي رواه ابن خزيمة في " صحيحه " قال : " كنا نضع اليدين قبل الركبتين فأمرنا بوضع الركبتين قبل اليدين " .
رابعاً : حديث أبي هريرة مضطرب المتن . فإن منهم من يقول : " وليضع يديه قبل ركبتيه " ومنهم من يقول بالعكس . ومنهم من يقول : " وليضع يديه على ركبتيه " كما رواه البيهقي .
خامساً : أن رواة حديث أبي هريرة قد تكلموا فيهم .
قال البخاري : " محمد بن عبد الله بن الحسن لا يتابع عليه . ولا أدري أسمع من أبي الزناد أم لا " ؟ وقال الدارقطني : " تفرد به الدرواردي عن محمد بن عبد الله المذكور " وأعله الدارقطني أيضاً بتفرد أصبغ بن الفرج عن الدرواردي .
سادساً : أن لحديث وائل بن حجر شواهد ، أما حديث أبي هريرة فليس له شاهد . !
سابعاً : أن ركبة البعير ليست في يده وإن أطلقوا على اللتين في اليدين اسم الركبة فإنما هو على سبيل التغليب ! وأن القول بأن ركبة البعير في يده لا يعرفه أهل اللغة .
قلت : هذه كانت جملة المطاعن وهي كما أشرت ـ قبل ـ مطاعن لا تثبت على النقد .
والجواب عليها من وجوه مراعياً الترتيب .
الأول : أن حديث وائل بن حجر حديث ضعيف .فأخرجه أبو داود ( 3 / 68 ـ 74 عون ) والنسائي ( 2 / 206 ـ 207 ) وابن ماجة ( 1 / 287 ) والدرامي ( 1 / 245 ) والطحاوي في " شرح المعاني " ( 1 / 255 ) والدارقطني ( 1 / 345 ) والحاكم في " المستدرك " ( 1 / 226 ) وابن حبان ( 487 ) والبيهقي ( 2 / 98 ) والبغوي في " شرح السنة " ( 3 / 133 ) والحازمي في " الاعتبار " ( ص 160 ـ 161 ) من طريق شريك النخعي عن عاصم بن كليب عن أبيه عن وائل بن حجر رضي الله تعالى عنه قال : " رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا سجد يضع ركبتيه قبل يديه وإذا نهض رفع يديه قبل ركبتيه " . قال الترمذي : " هذا حديث حسن غريب . لا نعرف أحداً رواه مثل هذا عن شريك " . وتبعه البغوي فقال : " حديث حسن " وكذا الحازمي . وقال الدارقطني : " تفرد به يزيد بن هارون عن شريك ولم يحدث به عن عاصم بن كليب غير شريك . وشريك ليس بالقوي فيما تفرد به " . وقال البيهقي ( 2 / 101 ) : " إسناده ضعيف " . وقال أيضاً : " هذا حديث يعد في أفراد شريك القاضي وإنما تابعه همام من هذا الوجه مرسلاً . وهكذا ذكره البخاري وغيره من الحفاظ المتقدمين رحمهم الله تعالى " .
وقال ابن العربي في " عارضة الأحوذي " ( 2 / 68 ـ 69 ) : " حديث غريب " .
قلت : وهذا القول منهم هو الذي تطمئن إليه نفس المرء المنصف . فإنه لا يعلم بتة لشريك متابع عليه إلا همام . ومع ذلك فقد خالفه في إسناده كما يأتي بيانه إن شاء الله . وشريك كان سيىء الحفظ . وسيىء الحفظ لا يحتج به إذا انفرد ، فكيف إذا خالف . ! قال إبراهيم بن سعد الجوهري : " أخطأ شريك في أربعمائة حديث " وقال النسائي : " ليس بالقوي " وضعفه يحيى بن سعيد جداً . وعليه فقول الترمذي : " حديث حسن " غير حسن . وأشد منه قول الحاكم " صحيح على شرط مسلم " وإن وافقه الذهبي ! . فشريك إنما أخرج له مسلم متابعة ولم يخرج له احتجاجاً . فأنى يكون على شرطه ؟ وقد صرح بذلك الذهبي نفسه في " الميزان " ثم كأنه ذهل عنه . فسبحان من لا يسهو .
أما مخالفة همام لشريك فأخرجها أبو داود في " سننه " ( 3 / 69 عون ) و البيهقي ( 2 / 99 ) عنه ثنا شقيق أبو الليث قال : حدثني عاصم بن كليب عن أبيه مرسلاً بنحوه . قال البيهقي : " قال عفان : هذا الحديث غريب " وقد خالف شقيق شريكاً القاضي أرسله " . قلت : ولكن شقيق هذا مجهول . قال الذهبي : " شقيق بن عاصم بن كليب وعنه همام لا يعرف " وأقره الحافظ في " التقريب " فقال : " مجهول " .
وأخرجه أبو داود والبيهقي من طريق همام ثنا محمد بن جحادة عن عبد الجبار ابن وائل عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم . ولكنه حديث واهٍ . فعبد الجبار لم يسمع من أبيه . كما قال الحافظ في " التلخيص " ( 1 / 245 ) . ولم يعتبر الحافظ الحازمي هذه الطريق شيئاً فقال في " الاعتبار " ( ص 161 ) : " والمرسل هو المحفوظ " .
فتبين مما قد ذكرته أن حديث وائل ضعيف بعلتين :
الأولى : ضعف شريك .
الثانية : مخالفة همام له . والله أعلم .
( تنبيه ) وقع في " موارد الظمان إلى زوائد ابن حبان " للحافظ نور الدين الهيثمي بدل " شريك " : " إسرائيل " وكنت في باديء أمري أظنها متابعة منه لشريك . وجعلت أتعجب في نفسي كيف خفيت على الدارقطني وغيره حتى قالوا : لم يروه عن عاصم إلا شريك " غير أني قلت في نفسي لعلها تصحفت عن شريك ثم إنه لا يمكن القطع في مثل هذا دون دليل قوي . وظللت هكذا حتى وصلني الجزء الثاني من "ضعيفة " شيخنا الألباني حفظه الله تعالى فإذا الأمر على ما كنت أحسب والحمد لله .
قال شيخنا حفظه الله تعالى : ( 2 / 329 ) : " وقع في الموارد : " إسرائيل " بدل " شريك " وهو خطأ من الناسخ وليس من الطابع ، فقد رجعت إلى الأصل المخطوط المحفوظ في المكتبة المحمودية في المدينة المنورة فرأيته في ( ق 35 / 1 ) : " إسرائيل " كما في المطبوعة عنه فليتنبه " اهـ .
الوجه الثاني :
قال شيخ الإسلام ـ ابن القيم ـ رضي الله عنه : " وحديث أبي هريرة لعل متنه انقلب .. الخ " .
قلت : أصاب شيخ الإسلام أجراً واحداً . فما قاله أقرب إلى الرجم بالغيب منه إلى التحقيق العلمي . وقد رده الشيخ على القاري رحمه الله تعالى في " مرقاة المفاتيح " ( 1 / 552 ) فقال : " وقول ابن القيم أن حديث أبي هريرة انقلب متنه على راويه فيه نظر إذ لو فتح هذا الباب لم يبق اعتماد على رواية راوٍ مع كونها صحيحة " اهـ وصدق يرحمه الله . فلو فتح هذا الباب لرد الناس كثيراً من السنن دونما دليل بحجة أن راويه أخطأ فيه ولعله كذا .
الوجه الثالث : أن الأحاديث التي أوردها معلولة لا تقوم بمثلها حجة ! فلا يعول على شيء منها عند أئمة النقد . والحديثان اصلهما حديث واحد . فأخرجه ابن أبي شيبة ( 1 / 263 ) ( ( ب ) ) وكذا الطحاوي ( 1 / 255 ) والبيهقي ( 2 / 100 ) من طريق محمد بن فضيل عن عبد الله بن سعيد عن جده عن أبي هريرة مرفوعاً . فذكره .
قلت : وإسناده ساقط ! وآفته عبد الله بن سعيد هذا فقد كذبه يحيى القطان . وقال أحمد : " منكر الحديث متروك الحديث . . " . وقال ابن عدي : " عامة ما يرويه الضعف عليه بين " وقال الحاكم أبو أحمد : " ذاهب الحديث " والكلام فيه طويل الذيل . ولذا قال الحافظ في " الفتح " ( 2 / 291 ) : " إسناده ضعيف " .
الوجه الرابع :
قال شيخ الإسلام ـ ابن القيم ـ : " إن كان حديث أبي هريرة محفوظاً فهو منسوخ .. " . قلت : وهو تعلق متداعٍ ! وقد سبقه إليه إبن خزيمة والخطابي . ولكن الحديث الذي زعموا أنه ناسخ حديث ضعيف . فكيف ينهض لنسخ حديث صحيح ؟ وهذا الحديث أخرجه ابن خزيمة في " صحيحه " ( 1 / 319 والبيهقي ( 1 / 100 ) والحازمي في " الاعتبار " من طريق إبراهيم بن إسماعيل بن يحيى بن سلمة بن كميل قال حدثني أبي عن أبيه عن سلمة عن مصعب بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه . فذكره . ولكن إسناده ضعيف جداً ! وله علتان بل ثلاثة :
الأولى : إبراهيم بن إسماعيل هذا قال فيه ابن حبان : " في روايته عن أبيه بعض المناكير " وكذا قال ابن نمير . وقال العقيلي : " لم يكن إبراهيم يقيم الحديث " .
الثانية : أبوه إسماعيل بن يحيى متروك كما قال الأزدى والدارقطني . وقد ألمح إلى ذلك الحافظ فقال في " الفتح " ( 2 / 291 ) : " وقد ادعى ابن خزيمة النسخ ولو صح حديث النسخ لكان قاطعاً للنزاع . ولكنه من أفراد إبراهيم بن إسماعيل بن سلمة بن كميل عن أبيه وهما ضعيفان " .
الثالثة : يحيى بن سلمة واهٍ . تركه النسائي ، وقال أبو حاتم وغيره : " منكر الحديث " وقال ابن معين : " لا يكتب حديثه " . وقال الحافظ الحازمي : " أما حديث سعد ففي إسناده مقال ولو كان محفوظاً لدل على النسخ غير أن المحفوظ عن مصعب عن أبيه حديث نسخ التطبيق . والله أعلم " اهـ . وقال النووي في " المجموع " ( 3 / 422 ) : " ولا حجة فيه لأنه ضعيف " . قلت : وأقره شيخ الإسلام ـ ابن القيم ـ في " الزاد " ورغم ذلك أورده كناسخ ! . وقال شيخنا الألباني في تعليقه على " المشكاة " ( 1 / 282 ) بعد قول الخطابي في النسخ : " وهذا يعني قول الخطابي في دعوى النسخ أبعد ما يكون عن الصواب من وجهين :
الأول : أن هذا إسناد صحيح ـ يعني حديث أبي هريرة ـ وحديث وائل ضعيف .
الثاني : إن هذا قول وذاك فعل والقول مقدم على الفعل عند التعارض .
ثم وجه ثالث : وهو أن له شاهداً من فعله صلى الله عليه وآله وسلم . فالأخذ بفعله الموافق لقوله أولى من الأخذ بفعله المخالف له وهذا بين لا يخفى إن شاء الله تعالى . وبه قال مالك وعن أحمد نحوه كما في "التحقيق " لابن الجوزي " اهـ .
الوجه الخامس :
قال شيخ الإسلام ـ ابن القيم ـ رضي الله عنه : " وحديث أبي هريرة مضطرب المتن . . . " !
قلت : ليس كما قال . فالاضطراب ـ هو أن يُروى الحديث على أوجه مختلفة متقاربة . ثم إن الاختلاف قد يكون من راوٍ واحدٍ بأن رواه مرة على وجه ، ومرة أخرى على وجه آخر مخالف له ، أو يكون أزيد من واحد بأن رواه كل جماعة على وجه مخالف للآخر . والاضطراب موجب لضعف الحديث لأنه يشعر بعدم ضبط رواته . ويقع في الإسناد والمتن كليهما . ثم إن رجحت إحدى الروايتين أو الروايات على الأخرى بحفظ راويها أو كثرة صحبته أو غير ذلك من وجوه الترجيحات فالحكم للراجحة ولا يكون الحديث مضطرباً . هذه هي القاعدة التي وضعها أسلافنا رضوان الله عليهم للحديث الذي يتنازع في أنه مضطرب . فإن علم ذلك فإن الحديث المعارض لحديث الباب حديث ساقط الإسناد لضعف عبد الله بن سعيد الشديد حتى لقد اتهمه يحيى القطان بأنه يكذب . وتقدم شرح ذلك . فيزول الاضطراب بترجيح حديث أبي هريرة الذي هو حجة لنا في الباب . والله الموفق .