الحمد لله حمداً يبلغ رضاه، وصلى الله على نبيه ومصطفاه، وعلى آله وصحبه ومن والاه الى يوم الدين. أما بعد:
هل تأملت هذا الرجل الذي احدودب ظهره، وابيض شعره، وتثاقلت خطاه، وخارت قواه، وسقط حاجبيه، وتناثرت أسنانه؟ فهو يقوم بصعوبة، ويقعد بصعوبة، وينام بصعوبة، ويصلي بصعوبة، ويصوم بصعوبة، ويأكل بصعوبة، ويشرب بصعوبة، ويقضي حاجته بصعوبة.
هل تأملت هذا الرجل؟ ألم يكن شاباً مثلك..؟ يعيش حياة الشباب.. ويسير سيرهم.. ويلهو لهوهم.. ويلعب لعبهم..، لقد ظن هذا الرجل أن أيام الشباب طويلة.. وأن قوة الشباب قاهرة.. وأن نضرة الشباب تزهو على الليالي والأيام !!
واليوم.. وبعد أن كبرت سنه.. وضعف بنيانه.. وتنوعت أسقامه.. يبكي على ما ضاع من عمره في اللهو واللعب.. يبكي على قوة الشباب التي ولت، وعلى نضرة الشباب التي استبدلت بالكبر والشيخوخة.. ويتمنى أن يعود إليه شبابه وقوته ليصرفها في طاعة الله ورضوانه. ولكن هيهات هيهات.. فكل يوم انشق فجره ينادي ابن آدم ويقول: يا ابن آدم ! أنا يوم جديد وعلى عملك شهيد، فاغتنمني فإني لن أعود الى يوم القيامة.
إن هذا الرجل يعيش اليوم في ندم وحسرة.. لماذا؟ لأنه لا يقوى على عبادة الله في زمن العجز والضعف والوهن.. يريد الصلاة فلا يستطيع.. يريد الصيام فلا يستطيع.. يريد الحج والاعتمار فلا يستطيع.. يريد زيارة القبور وتشييع الجنائز فلا يستطيع.. قد هدّه المرض.. وتكاثرت عليه الأوجاع.. ولذلك فإنه يبكي.
بكيت عـلى الشــــباب بدمع عيني *** فلــم يغن البكــــــاء ولا النحيب
فيا أسفاً أسفـــت عـــــلى شـــباب *** نعـاه الشيب والرأس الخضيب
عريت من الشباب وكنت غصناً *** كمـا يعرى من الورق القضيب
فيا ليت الشــــــباب يعــــود يوماً *** فأخـــبره بما فعــــل المشـــــيب
احذر طول الأمل !!
أخي الشاب: قد تقول: وما الذي يجعلني أنتظر حتى أصل الى هذا الحد من الضعف والوهن.. إني سأتوب قبل ذلك العمر.. ربما في الأربعين أو بعد ذلك بقليل، وهي سن يكون الإنسان فيها متمتعاً بكامل صحته وقواه، وحينئذ أجمع بين الأمرين: متعة الشباب، وعبادة الله بعد ذلك.. والله تعالى غفور رحيم.. يتوب على العبد متى تاب، ولو في الخمسين من عمره أو الستين أو السبعين ما لم يغرغر على الموت.
ولبيان زيف هذا التصور – أخي الشاب – أحب أن أسألك هذا السؤال: من يضمن لك أن تصل الى الثلاثين أو الأربعين أو الخمسين؟ بل من يضمن لك البقاء الى غد؟ بل من يضمن لك أن تقوم من مقامك؟ أما تعلم أن الموت يأتي بغتة؟ وأنه ينزل بالشباب كما ينزل بغيرهم؟ أما رأيت كثيراً من أقرانك أخذهم الموت فأصبحوا من سكان القبور؟
هل تمكن هؤلاء من التوبة؟ وهل تمتعوا بالمهلة؟ وهل استفادوا في قبورهم من تضييع الأوقات في الملاهي والمنكرات؟ وهل وصلوا السن التي تريد أن تصل إليها ثم تتوب بعدها؟ فلماذا تؤمل البقاء في هذه الدار، وطريقك محفوف بالمكاره والأخطار؟
ولماذا التسويف والغفلة؟ وأنت تعلم أن الموت يأتي بغتة
وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [النور:31].
قال ابن الجوزي: يجب على من لا يدري متى يبغته الموت أن يكون مستعداً، ولا يغتر بالشباب والصحة، فإن أقل من يموت الأشياخ، وأكثر من يموت من الشباب، ولهذا يندر من يكبر وقد أنشدوا:
يُعـــمّر واحــد فيـغرّ قـــوماً *** ويُنسـى من يمـوت من الشباب
ومن الاغترار: طول الأمل، وما من آفة أعظم منه، فإنه لولا طول الأمل ما وقع إهمال أصلاً، وإنما تتُقدّم المعاصي وتُؤخر التوبة لطول الأمل وتبادر الشهوات.
تؤمل في الدنيا قليلاً ولا تدري *** إذا جـن ليل هل تعيش الى الفجر
فكم من صحيح مات بغير علة! *** وكم من سقيم عاش حيناً من الدهر
شباب عاجز:
وكذلك – أخي الشاب- إذا وصلت الى سن الأربعين فما يدريك أنك ستكون متمتعاً بقواك في هذه السن كما زعمت؟ قادراً على عبادة الله على أكمل وجه؟
أما يمكن أن يصاب ابن العشرين أو الثلاثين أو الأربعين بالأمراض التي تزلزل أركانه؟ وتجعله طريح الفراش حبيس الأسرّة البيضاء؟ أما يمكن أن يبتلى ابن العشرين أو الثلاثين أو الأربعين بالحوادث المروعة التي لا يستطيع بعدها حراكاً؟
فالله الله في تجديد التوبة، عساها تكف كف الجزاء، والحذر الحذر من الذنوب، فإن المبارزة لله تسقط العبد من عينه، ومتى سقط العبد من عين الله في أي أودية الدنيا هلك !
عاقبة التسويف:
أخي الشاب: هناك أمر آخر قد خفي عليك، وهو أن التسويف لا يقف عند حدّ، بل هو بحر لا ساحل له، والأماني لا تنقطع بصاحبها، ولا يزال العبد يسوف حتى يصير مجندلاً في قبره.. فإذا بلغ الثلاثين قال: سوف أتوب غداً.. وإذا جاوز الأربعين قال: سأتوب غداً.. وإذا بلغ الخمسين قال: غداً.. وإذا بلغ الستين قال: غداً غداً.. وكل يوم يمر عليه يزداد فيه بعداً من الله، ونفوراً من التوبة وسبيلها.. فالحازم من عزم على التوبة من ساعته، وترك سبل الغواية الآن قبل غده.
قال الحسن رحمه الله: إن قوماً ألهتهم أماني المغفرة، حتى خرجوا من الدنيا بغير توبة، يقول أحدهم: إني أحسن الظن بربي وكذب.. لو أحسن الظن لأحسن العمل.
خذ من شبابك قبل الموت والهرم ** وبادر التوب قبل الفوت والندم
واعـــلم بأنك مجــزئ ومــــرتهن *** وراقـــب الله واحـذر زلة القـدم
فيا أيها الشاب: إياك والتسويف بالتوبة، والاتكال على العفو والمغفرة، فالله تعالى كما أنه غفور رحيم، فإنه أيضاً شديد العقاب، ذو بطش شديد، وأخذ أليم. قال تعالى:
إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ [البروج:12]. وقال سبحانه:
إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ [هود:102]. وقال النبي
:
{ إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته} [متفق عليه].
وهناك ثلاثة أسباب للتراخي والميل الى اللذات:
أحدها: رؤية الهوى العاجل، فإن رؤيته تشغل عن الفكر فيما يجنيه، لأن عين الهوى عمياء !
الثاني: التسويف بالتوبة، فلو حضر العقل لحذر من آفات التأخير، فربما هجم الموت قبل أن تحصل التوبة.
الثالث: رجاء الرحمة فيقول العاصي: ربي رحيم، وينسى أنه شديد العقاب.
قـــــل للمــــفــرط يسـتــعد *** ما من ورود الموت بد
قــد أخلـــق الدهــر الشباب *** وما مضــى لا يسـتـرد
أو ما يخاف أخو المعاصي *** من لــه البطــش الأشــد
يــومــاً يعــاين موقـــــــــفاً *** فيــه خــطوب لا تحـــد
فــــإلام يشتـــغل الفــــــتى *** في لهـــوه والأمــر جد