وفاة الرسول صلي الله عليه وسلم
المنصورة : جامع المصطفي :20/4/2007 م
الحمد لله رب الأرض والسماء. تفرد بالعظمة والكبرياء وتوحد بالنصرة والبقاء.هو الأول بلا ابتداء والآخر بلا انتهاء . سبحانه سبحانه كتب لنفسه البقاء. وعلي خلقه الفناء . هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم . أحمد الله وأشكره. وأتوب إليه وأستغفره . وأستعين به وأستنصره . وأسأله اللطف فيما جري به القضاء . وأشهد أن لا اله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله شرفه وفضله وزينه وجمله واصطفاه واجتباه ووفقه وهداه فكان صفوة البرايا الأوفياء . اللهم صل وسلم وبارك علي رسول الله محمد خير عبادك وعلي آله وصحبه وكل مسلم آمن بآيات ربه ففاز بقربه وتمتع بحبه وسار علي دربه إلى يوم اللقاء .أما بعد فأوصيكم وإياي عباد الله بتقوى الله وأحذركم ونفسي من عصيان الله ثم أستفتح بالذي هو خير .يقول الله تبارك وتعالي وهو أصدق القائلين. مخاطبا رسوله محمدا الصادق الأمين : بسم الله الرحمن الرحيم "إذا جاء نصر الله والفتح . ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا . فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا ".
عباد الله أيها المسلمون :
نزلت هذه السورة المباركة علي قلب رسول الله صلي الله عليه وسلم في حجة الوداع . في عيد النحر. لتخبره بقرب أجله . وهذا لم يحدث إلا لرسول الله صلي الله عليه وسلم فالموت بالنسبة لنا لا نعرف موعده يأتي بغتة أو يسبقه مرض. فالعلل والأمراض بريد الموت فإذا جاء الأجل حضر الملك وقال للإنسان كم بريد بعد بريد وكم رسول بعد رسول وكم خبر بعد خبر. هاأنا البريد الذي ليس بعدي بريد وأنا الرسول الذي ليس بعدي رسول وأنا الخبر الذي ليس بعدي خبر أجب ربك طائعا أو مكرها وليبكي الباكي علي نفسه . أما رسول الله صلي الله عليه وسلم علم بقرب أجله فعاد من حجة الوداع وهو يعلم أنه بعد أيام يلقي الله . لهذا نزل عليه قول الله( واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ). ويصح في ذلك ما روي الإمام الطبراني رحمه الله عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال : لما نزلت هذه السورة " سورة النصر " قال رسول الله صلي الله عليه وسلم لسيدنا جبريل " نعيت إلى نفسي يا جبريل" . وروي الإمام الطبراني رحمه الله عن بن عباس رضي الله عنه قال لما نزلت هذه السورة علي رسول الله صلي الله عليه وسلم" نعيت إلى الرسول نفسه" . فأخذها بأشد ما يكون اجتهادا في أمر الآخرة , فقد نعت إلى الرسول نفسه . بما ضربت من مواعيد تحققت فامتثل لها الرسول أمر ربه . كي يختتم حياته بما ينبغي أن تختتم به حياة أفضل مجاهد عرفته البشرية كلها منذ فجرها الأول . ويصح في ذلك ما روي بن خزيمة رحمه الله عن أم المؤمنين أم سلمة رضي الله عنها قالت كان الرسول صلي الله عليه وسلم في آخر عمره لا يقوم ولا يقعد ولا يذهب ولا يجيء إلا قال " سبحان الله وبحمده استغفر الله وأتوب إليه فقلت يا رسول الله إنك تدعو بدعاء لم تدع به من قبل . فقال إن الله أراني علامة في أمتي وتلا عليها السورة وقال فإني أستغفر الله وأسبحه تعالي ". لهذا كان من حق رسول الله أن يعرف باقتراب أجله وأن يعرف بانتهاء أيامه في هذه الدنيا . فقال علي منبر مكة أمام آلاف الحجاج من المسلمين" أيها الناس خذوا عني مناسككم لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا . ولما عاد من حجة الوداع جمع الناس وخطبهم وقال أيها الناس إنما أنا بشر مثلكم يوشك أن يأتيني رسول ربي فأجيب . ثم حث علي التمسك بكتاب الله وسنة رسول الله ثم ودع الناس فقال الناس هذه حجة الوداع ".
وفي ذات يوم من أيام شهر صفر عاد من جنازة أحد أصحابه من الأنصار يشكو صداعا ألم به فاجتمع الأنصار حول بيته يبكون فطلب أن يصب عليه الماء من سبع قرب ثم خرج بعد أن أحس الشفاء. خرج معصوب الرأس فرقي المنبر فحمد الله وأثني عليه وأوصي بالأنصار خيرا ثم قال أيها الناس إن عبدا خيره الله بين ما في الدنيا وما عند الله فاختار ما عند الله تعالي فبكي أبو بكر وقال نحن نفديك بأنفسنا وأموالنا يا رسول الله . فكان أبو بكر أعرف الناس بموت رسول الله صلي الله عليه وسلم . ثم عاد إلى منزل عائشة واشتد عليه الألم واشتدت به الحمي فدعي بحضور فاطمة فحضرت ثم دعي بماء بارد فجيء بركوة فيها ماء بارد فجعل يضع يده الشريفة علي الماء ويمسح وجهه الشريف ويقول سبحان الله إن للموت لسكرات . اللهم هون علي سكرات الموت وتنظر فاطمة إلى ما ألم بأبيها وتقول في صراخ وحزن واكرب أبتاه فيقول لها صلي الله عليه وسلم لا كرب علي أبيك بعد اليوم . إن ما حدث لأبيك ليس الله بتارك منه أحدا إلى يوم القيامة . ثم أغمي علي رسول الله صلي الله عليه وسلم فأسرعت عائشة إليه وضمته إلى صدرها فلما أفاق سمعته يقول : اللهم الرفيق الأعلى مع جبريل وإسرافيل وميكائيل مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا ذلك الفضل من الله وكفي بالله عليما . ولما أصبح الصباح علا صوت بلال ولاح حي علي الصلاة حي علي الفلاح . فقال الرسول لفاطمة مري بلال يقرئ أبا بكر السلام ويصلي بالناس . فبلغ بلال السلام والرسالة . وامتثل أبو بكر لأوامر الرسول صلي الله عليه وسلم وتقدم للصلاة وكبر فلما قرأ الحمد لله رب العالمين . تذكر موقف الرسول ومكان الرسول فخنقته العبرة . وبكي فبكي الناس أجمعون . فكان لهم ضجة سمعها رسول الله صلي الله عليه وسلم فسأل ما هذه الضجة ؟ فقالت فاطمة إنها ضجة لأن الناس افتقدوك في الصلاة يا رسول الله . فدعي رسول الله صلي الله عليه وسلم أن يخفف عنه الحمي . فاستجاب الله فخرج رسول الله متوضئا متوكئا علي الفضل بن العباس وأسامة بن زيد وعلي بن أبي طالب . فلما أحس المسلمون أنوار الرسول تخترق المسجد جعلت الصفوف تنفرج وجعل الرسول يخترق. وأراد أبو بكر أن يرجع ولكن أشار الرسول أن اثبت . فوقف حذو أبى بكر فلما ختم الصلاة رقي المنبر. وقال أيها الناس : بلغني أنكم تخافون من موت نبيكم فهل خلد نبي من قبلي فيمن بعث فيهم ؟ ألا وإني لاحق بربي وأنتم لاحقون بي .ألا وإني فرطكم وانتم لاحقون بي ألا وإن موعدكم الحوض وإني أنظر إليه من مقامي هذا . أوصيكم بالمهاجرين خيرا وأوصي المهاجرين فيما بينهم خيرا أوصيكم بالأنصار خيرا ألم أبلغ الرسالة . ألم أؤد الأمانة فقالوا بلي يا رسول الله لقد بلغت الرسالة وأديت الأمانة ونصحت الأمة وكشفت الغمة وجاهدت في سبيل ربك حتى أتاك اليقين فجزاك الله خير ما جازي نبيا عن أمته . أيها الناس إذا غسلتموني وكفنتموني فضعوني علي شفير قبري ساعة فإن أول من يصلي علي الله عز وجل ثم الملائكة يصلي علي جبريل و إسرافيل و ميكائيل وملك الموت مع جنود كثيرة من الملائكة وذلكم قوله تعالي " إن الله وملائكته يصلون علي النبي"ثم رجال من أهل بيتي ثم نساء من أهل بيتي ثم ادخلوا علي الأدنى فالأدنى زمرا زمرا وجماعات جماعات فصلوا علي وسلموا تسليما كثيرا . ولا تؤذوني بصيحة ولا ضجة ولا رنة ولا تصلوا علي بإمام فإن رسول الله سيد الأئمة . ثم نزل وذهب إلى بيت عائشة واشتد به المرض ونام بين سحرها ونحرها . وبدأ يثقل فلما أفاق نظر فإذا جبريل ومعه ملك الموت قال من ؟ قال جبريل وقد أرسلني الله إليك أخيرك فإن أردت أن تنتقل إلى الله فهذا ملك الموت فإن كنت تريد خلودا خلدك الله . فقال له ائذن لملك الموت فدخل فسلم علي رسول الله وقال له أمرني ربي بطاعتك فنظر جبريل إلى النبي فقال له لقد طال شوق الله إليك فقال وأنا قد اشتقت إلى لقاء ربي .. وسرعان ما أشرقت الشمس وعلا معها صوت فاطمة الزهراء تدق علي مسامع الوجود ذلك البيان المحزن وا أبتاه أجاب ربا دعاه . وا أبتاه إلى جبريل ننعاه. وا أبتاه من إلى جنة الفردوس مأواه . فلما علم الصحابة منهم من أخذته الدهشة . ومنهم من أغمي عليه. ومنهم من أخرس . حتى إن عمر بن الخطاب قال بلسانه من قال إن محمدا قد مات قطعت رقبته بسيفي هذا . فاستدرك أبو بكر الموقف ورقي المنبر وقال : أيها المسلمون من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات ومن كان يعبد الله فإن الله حي باق لا يموت أبدا وقرأ قول الله " َمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللّهُ الشَّاكِرِينَ [آل عمران : 144]فقال عمر وكأني لم أسمعها من قبل . وهكذا توفي رسول الله خير الخلق . كي ما يدلنا علي أنه لو كانت الدنيا تدوم بأهلها لدام رسول الله حيا وباقيا . فلما أرادوا غسله قالوا: ما ندري أنجرّد رسول الله من ثيابه كما نجرد موتانا، أم نغسله وعليه ثيابه؟ فلما اختلفوا ألقى الله عليهم النوم حتى ما منهم أحد إلا وذقنه في صدره، ثم كلّمهم مكلّم من ناحية البيت لا يدرون من هو: (أن غسّلوا رسول الله وعليه ثيابه). فقاموا إلى رسول الله فغسلوه وعليه قميصه، يصبون الماء فوق القميص، فيدلكون دون أيديهم. فكانت عائشة رضي الله عنها تقول: لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما غسّل رسول الله إلا نساؤه.وعن علي : (أنه لما غسّل رسول الله ذهب يلتمس منه ما يلتمس من الميت فلم يجد شيئا، فقال: بأبي الطيب! طبت حيا وطبت ميتا). فلما فرغوا من غسله كفنوه في ثلاثة أثواب بيض سحولية ليس فيها قميص ولا عمامة. كما قالت عائشة رضي الله عنها. ثم أخذوا في الصلاة عليه فرادى لهم يؤمهم أحد دخل الرجال ثم النساء ثم الصبيان . فلما أرادوا دفنه اختلفوا أين يدفنونه ؟ فقال أبو بكر : سمعت من رسول الله شيئا ما نسيته قال : (ما قبض الله نبيا إلا في الموضع الذي يحب أن يدفن فيه فدفنوه في موضع فراشه). وكان بالمدينة رجل يلحد وآخر يضرح فقالوا: نستخير ربنا ونبعث إليهما فأيهما سبق تركناه . فسبق صاحب اللحد فلحدوا للنبي قالت عائشة رضي الله عنها: ما علمنا بدفن النبي حتى سمعنا صوت المساحي في جوف ليلة الأربعاء . فلما فرغوا من دفنه قالت فاطمة رضي الله عنها: يا أنس! أطابت أنفسكم أن تحثوا على رسول الله التراب !!. اتقوا الله عباد الله واتعظوا بوفاة نبيكم صلي الله عليه وسلم "يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً لَّا يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئاً إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ [ لقمان ].
روي أهل الأثر قالوا لما نزل قول الله تعالي اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا " بكي أبو بكر وقال ليس بعد الكمال إلا الزوال وليس بعد التمام إلا النقص وصدق من قال
لكل شيء إذا تم نقصـــــــــان فلا يغر بطيب العيش إنسان
هي الأمور كما شاهدتها دول من سره زمن ساءته أزمان
وهذه الدنيا لا تبقي علي أحد ولا يدوم علي حال لها شـان
أين الملوك! ! لقد ذهبوا تحت الثري كأن القوم ما كانوا
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم .
الثانية : قال تعالي مخاطبا رسوله " إنك ميت وإنهم ميتون "روي عن بن مسعود رضي الله عنه قال : دخلت علي رسول الله وهو بين الحياة والموت فدمعت عيناه وقال مرحبا بكم حياكم الله . نصركم الله . آواكم الله لقد دنا الفراق إلى سدرة المنتهي . أقرؤا علي أنفسكم مني السلام وعلي من دخل من دنيانا من بعدي الإسلام السلام والسلام عليكم ورحمة الله . وموت النبي أعظم مصيبة ابتليت بها الأمة . فمن مات له حبيب أو قريب ورأي أن المصيبة جلل فليتذكر مصابه بفقد الحبيب صلي الله عليه وسلم فإنه يخفف عنه المصيبة . ومن ثم فالموت موت ليس منه فوت والكل يموت فسبحان الحي الذي لا يموت .