وقعت وقائع هذه القصة منذ أكثر من قرن من الزمان , وكان مسرحها قصور الملوك والأمراء والنبلاء في دول أوروبا. (1)
لقد كانت هذه القصور مسرحاً لاقامة الحفلات الراقصة على أنغام الموسيقى التي كانت تنساب بين صالاتها, ومع انسيابها ينساب سفاح غريب , ولم تمر ليلة من ليالي الشتاء إلا ولهذا السفاح ضحايا.
وردت الأنباء والتقارير من الجهات المسؤوله عن حدوث حالات تسمم غريبه , وأحيط الأمر بالكتمان حتى يتمكن المحققون من التوصل إلى المجرم الحقيقي والقبض عليه.
ونشط رجال الأمن ودخلوا القصور متنكرين علهم يميطون اللثام عن سر رهيب عاشت فيه قصور الشتاء وسفاح عجيب يوقع ضحاياه في مخالبه,وشددت الحراسة على القصور,وتم التأكد من الشخصيات العظيمة التي تدخلها والخدم والطباخون الذين يعلمون فيها , ورغم ذلك كان التسمم الزرنيخي يحدث.
بدأت الأقاويل تنتشر , والاشاعات تروج , فمرة يتهمون صاحب قصر من القصور , ولكن السفاح يدخل كل القصور , ومرة يتهمون الأطباء , ووصل الأمر إلى اتهام رجال الأمن , والخدم , وهجرت القصور في فصل الشتاء .
وفي يوم من الأيام دعا أحد النبلاء عالماً من العلماء , وكان له أنف عالم ونظرة باحث , اقترب العالم من أحد الصور الزيتية الجميلة ونظر إليها فوجد شيئاً أشبه بالعثه , فمد يده خلسة وأخذ جزءاً من الصورة الزيتية الجميلة , وأسرع إلى بيته وفحص العينه جيداً , فإذا الذي بين يديه خيوط من نسيج تكاد تتمزق من اللمس , شمها فإذا رائحة غريبة تنبعث منها , أخذ خيطاً منها ووضعه تحت المجهر , ونظر إليها نظرة باحث فهاله ما رآى وانتفض قائما , وأخذ يجري بحقيبته في يده إلى البيت النبيل , ودق الأبواب بعنف فخرج إليه الحراس فاستأذن في الدخول وأسرع إلى القاعة وهو يصرخ : افتحوا الأبواب والنوافذ , افتحوا الأبواب والنوافذ, افتحوا الأبواب والنوافذ أيها الأمراء والنبلاء , أسرع النبيل يستوضح الأمر .
فقال العالم : لقد عرفت المجرم الذي ينفث فيكم سمومه؟!
وتوجه العالم فوراً إلى الصورة الزيتية قائلا: إن السفاح الحقيقي يكمن في هذه الصورة. ويمد يده إلى جزء من الصورة ويضغط عليها بإصبعه فيتهاوى هذا الجزء ونادى عليهم قائلا : تعالوا وضعوا أنوفكم على هذه الصورة 000 رائحة الزرنيخ وأسرع الجميع لفتح النوافذ.
وتكلم العالم ليقول : هذه الصور الزيتية التي تزين الجدران تدهن بدهانات يدخل في تركيبها أكاسيد الزرنيخ.
وهذه الصورة تعتبر طعاماً شهياً لبعض الفطريات رغم احتوائها على كميات مركزة من الزرنيخ.
وإذا كان السفاح يدخل القصور في الشتاء فذلك يعود إلى غلق النوافذ والأبواب , وتجمع بخار الماء على الحوائط والصور والدهانات , فتلعب الفطريات بمركبات الزرنيخ بإنزيماتها المحلله القوية , وتحولها إلى صورة أخرى ينطلق منها غازات سامة تتراكم في البيئة الداخلية المغلقة , وهكذا يحدث التسمم البطئ.
وصاح بعض الأمراء : كيف يتحمل هذا الفطر الحقير الحياة على هذا الزرنيخ السام القاتل , ونحن الأشداء الأقوياء المصارعون نترنح ونسقط من الاعياء من رائحة يطلقها؟!.
نقول : الفطريات أحد الكائنات الحية الدقيقة التابعة لمملكة الفطريات Kingdom Fungi وهبها الله سبحانه وتعالى أقوى جهاز إنزيمي في العالم تحلل به كل شيء , وهي منتشرة في كل البيئات الأرضية تقريباً , وتتحكم في بيئتنا بالاصلاح مرات والافساد مرات أخرى , وهي من جنود الله الخفية التي سخرها لخدمة البشرية , وتخليصها من بقايا الكائنات الحية , وإنتاج المواد الغذائية المفيدة كما حدثناكم سابقاً(2) في الفطريات البازيدية Basidiomycota والفطريات الزقية Ascomycota والأعفان Moulds وهي مخلوقة بحكمة مقدره بأمر الله سبحانه وتعالى.
ولو أعطى الله سبحانه وتعالى الأمر لهذه الفطريات أن تخرج عن قوانينه الحالية التي أعطاها لها إلى حالات العشوائية والصدفة والطفره لهاجمت الفطريات المحاصيل الزراعية, والحدائق المنزلية , وأثاث البيت , وأكلت الأحذية والجلود , والملابس والصوف, والسجاد والموكيت, والكتب والمكتبات وكل شيء حولنا, ولكن سبحان من خلق فسوى, وقدر فهدى.
من هنا وجب علينا تهوية البيوت والقاعات والفصول والمكاتب خاصة في الأجواء الرطبة الدافئة , وتنظيف المكيفات التي تعشش فيها ملايين البكتيريا والفطريات الممرضة والخطيرة.
وعلينا بالنظافة العامة وعدم ترك المخلفات في المنازل والشوارع وتعليم التلاميذ كيف يحافظون على البيئة , ويتعاملون مع المخلفات بكل علمية وعقل سليم.
وعلينا الانتباه إلى دهانات الحوائط التي تحمل المركبات السامة التي تحللها الفطريات والبكتيريا , وأن نبتعد عن استعمالها في دهان الجدران خاصة في دورات المياه , وعلينا عدم استخدام حشاوي البلاستيك حول الأحواض والحوائط لأنها من المواد الغذائية المفضلة للفطريات ونحن نرى بعضها على هيئة عفن أسود حول الأحواض والجدران. علينا باستخدام الأسمنت الأبيض بدلاً من هذه المواد المغذية للأعفان وعلينا بالثقافة العلمية في حياتنا اليومية لنتعلم عن هذه الكائنات الحية ما يجب علينا تعلمه.
بقلم الدكتور نظمي خليل أبو العطا موسى